©Photo: EuroMed Rights, ©Design: Boshra Jallali

"و في غمرة النضالات اتضّحت الغاية"

سندس قربوج (هي)، أخصائية نفسيّة

 
بقلم هيثم حوَّال
مترجم للعربية عن فراس العرفاوي
 

 

للا يمكن الاكتفاء بلقاء قصير للحديث معها. سندس ڨربوج هي أخصائية في علم النفس السريري. تُدرِّس الآن علم النفس في الجامعة. وهي مهنة تُرجِّع صدى قضايا الجندر وحقوق الإنسان والنسويّة بما يعكس التزاما ونضالا تقاطعيًّا. تسير مهنتها جنبا إلى جنب مع دعمها الصلب للأقليات. تُحدّثنا في هذا اللقاء عن نضالها الذي يصدع به صوتها عاليا وبقوّة.

1- لقد جعلتِ مسيرتك في خدمة حقوق الإنسان وكافحتي من أجل المساواة والنسويّة وفي سبيل الأقليّات. إنّ التزامكِ ونضالكِ لتقاطعيٌّ. ولكن قبل الخوض في هذه الإنجازات، من هي سندس ڨربوج؟

تلك هي قصة حياتي (وتضحك). لقد بدأ  كل شيء بأمريْن مهمين ومتناقضين، هما اللّذان جعلاني الشخص الذي أنا عليه اليوم. أوّلهما عائلتي التي تبدو في الظاهر محافظة، عاديّة، تونسيّة. سرعان ما اكتشفت وأنا صغيرة أنّ دعم والدي لا حدّ له. كما ساهمت مكانتي في الأسرة في جعل علاقتي به غريبة ومتميّزة. (تضحك) أنا الأكبر بين إخوتي العديدين. كنت أتبادل مع والدي نقاشات عميقة فكريّا في وقت مبكّر. لا شكّ في أنّ هذه النقاشات كانت محفوفة بالمزالق والإشكالات ولكنّها كانت دائما مدفوعة بالنزاهة الفكريّة. لقد كان والدي رجلا مُستنيرا. أذكر أنه كان أوّل من تحدّثت معه عندما بدأت في تكوين حججي لدعم إلغاء عقوبة الإعدام. كان الحجّة تلتقي بضديدها عند النقاش معه. إنّ هويّتي اليوم نتيجة لذلك السياق العائليّ ولمسيرة حياتي الشخصيّة التي لم يرحمها العنف. لقد تعرّضت لحوادث جَلَلٍ مكّنتني من اكتشاف ذاتي ودفعتني إلى دراسة علم النفس. إنّ أوّل درس تعلّمته في الحياة، الصمود. لقد تمكّنت من تحويل المآسي التي عشتها إلى سلاح أحارب به. لقد بدأ التزامي بحقوق الإنسان منذ أيّام الثانويّة بفضل نوادي السينما ثمّ الاتحاد العام لطلبة تونس في الجامعة الذي مثّل مهدا لدوائر النقاش والحواراتفي الماضي. لقد كانت دوائرَ مُسيّسة حسب ما أتذكّر ولكنّها كانت تُمثّل رغم ذلك مدخلا للنقاش العامّ. كان الاتحاد العام لطلبة تونس والجمعيّة التونسيّة للنساء الديمقراطيّات وجمعيّة النساء التونسيات للبحث حول التنمية ومنظمة العفو الدوليّة جزءا من المشهد التونسي قبل الثورة. جُبْتُها جميعا دون أن أتسيَّس. لقد كنت ومازلت أعرّف نفسي بأنّي نسويّة. أريد أن أؤكّد كذلك أنّي أكره أن تُلصَق بي علامة معيّنة أو أن أوضع في خانة ما. فأنا أناضل على جميع الجبهات من أجل قضايا مختلفة.


2- هل مازالت نضالاتكِ في جوهرها تقاطعيّة؟

نعم. فذلك أمر حتميّ عندما ننخرط في منطق الكفاح ضدّ التمييز والاضطهاد. هكذا ندخل دائرة حقوق الإنسان الواسعة. فكل القضايا تقاطعيّة !

3- لنتحدّث عن الالتزام والنضال قبل وبعد الثورة التونسيّة التي اندلعت في 2011 !

ما معنى أن تكون.ي مناضلا.ة؟ (تضحك) لقد أصبح المصطلح مُستهلكا ويُستعمل مثلما اتّفق. نرى اليوم الكثير من المناضلين.ات حتى أني قرّرتُ أن أفسح لهم المجال. (تضحك) لنحاول تعريف كلمةمناضل.ة“. ماذا أقصد بهذه العبارة ؟ إذا ما كنت أساند شخصا في وضع هشاشة سواء كان.ت ت.يشبهني أو لا، دون أن أباليَ باختلافاتنا وبالتركيز فقط على ما ت.يُعانيه، ففي هذه الحالة أنا مناضلة. إذا ما كنت أُنصِتُ لمن يعتبرون أنفسهم.ن أقلّيّات، فأنا مناضلة. أضيف أيضا أنّي في بحث متواصل عن المعلومة. إذ يجب تجنّب البقاء ضمن الحدود التي تبعث على الارتياح. على الإنسان أن يُدرّب باستمرار مرونته الذهنيّة. فهي التي تسمح لنا بالانفتاح على المعجم والخطاب. باعتباريحليفةلا يُمكنني تعويض المعنيّين.ات والتحدّث باسمهم.ن. مايُزعجني منذ انطلاق الثورة وإلى حدّ هذه اللحظة، لا سيّما مع حريّة التعبير، هو هذه العبارات والوظائف التي نُطلقِها على الناس باستهتار.

4- هل توافقين على عبارة أو تسمية "شخص مُناضل من أجل حقوق الإنسان" ؟

طبعا. دون أدنى شكّ. فهي شديدة الدلالة. من السهل اليوم رفع شعار النضالفي حين أنّه من الأفضل أن يعمل الإنسان على تطوير ذاته.

5- كيف كان الالتزام من أجل حقوق الإنسان قبل وبعد ثورة 14 جانفي 2011؟

لا شكّ أنّ الأمر أصبح أصعب بكثير بعد 2011. قبل الثورة كان الجميع مُتوحّدا ضدّ المُستبِدَّيْن بن علي وبورقيبة. بن علي كان العدوّ الأفضل، إذ كانت الدكتاتوريّة جليَّة للعيان في فترته. كان الجميع ضدّه. كُنّا مُنقسمين إلى قسمين، قسمٌ يُعبِّر عن آراءه وقسم صامت. في فترة حكم بن علي، كان من المستحيل الالتزام على المستوى الجماعيّ في مجموعات أو جمعيّات. لكنّ كان من الأسهل بكثير الالتزام على المستوى الشخصيّ. بُعيد 2011 حان وقت شهر العسل. لقد عشنا نشوة جماعيّة لا تُنسى توفّرت لنا أثنائها الوسائل اللازمة للعملإلى أن وصلنا لوقتنا هذا. لا يسعني سوى أن أُؤكِّد أنّ هاتين السنتين الأخيرتين هي من أصعب ما عشنا. لا جدال في التعذيب الجسديّ الذي عانيناه من بن علي. أمّا اليوم يتمثّل التعذيب في التناحر فيما بيننا ممّا فسح المجال أمام شعبويّة مقيتة لا يُمكن إلّا أن تُولِّد أخطر أشكال الحوكمة على الإطلاق. يمكن أن يصبح المواطنون أعداءً، فالحوكمة الشعبويّة تستهدف دائماحقوق الإنسانأوّلا. أقتبس مقولة من سيمون ديبوفوار لأؤكّد على أنّ التحوّل نحو الشعبويّة كافٍ لتهديد كل الحرّيات. فما الذي يمكن أن يكون ألذّ وأسهل على المنتقدين من اضطهاد الأقلّيّات؟ هكذا تتولّد الخلافات العرقيّة وفي الهويّة وغيرها. يُمثّل ذلك وسيلة مثلى لصرف الانتباه. زِد على ذلك أنّ تعليم ثقافة حقوق الإنسان أمر غائب تماما عن برامجنا المدرسيّة ومناهجنا الجامعيّة وحتّى الإعلامممّا يضع كل المجتمع في خطر دائم.


6- هل يمكنك استحضار لحظة تواصلك الأولى مع المجتمع الكويريّ؟ هل كان التواصل سلِسًا أم مُعقّدا؟ وفي أيّ سياقٍ تمَّ ذلك؟

لقد حصل ذلك قديما وفي سياق عملي وتكويني كأخصائية نفسيّة ونشاطي في المنظمات. يواجه كذلك الجميع دون استثناء مسألة الهويّة في لحظة ما. فمنّا من يعيش التجربة في إنكار ومنّا من يتأخّر في ذلك. لقد عرفت في أواخر الثمانينات أساتذة جامعيّين يعتبرون حينها المثليّة الجنسيّةمرضًاويستندون في ذلك إلى مجلّات وكُتيّبات. لقد اُعتُبِرَت المثليّة طويلاانحرافاوشذوذا“. ورغم أنّ منظّمة الصحة العالميّة أعلنت أنّها ليست حالة مرضيّة، فإنّها ظلّت تُدرَّسُ باعتبارها كذلك في تونس حتى بعد 10 سنوات. من حسن حظّي شخصيا أنّي كنت محاطة بعلماء.ات ومثقفين.ات مستنيرين.ات. ومن بينهم.ن علياء بافون، وهي مختصّة كبيرة في علم الاجتماع كانت تُقدِّم لي الكتب لأطالعها. بدأت حينها الأسئلة الأولى تُراودنيوهي أسئلة تتعلّق بالعبور الجندريّ أيضا، الأمر الذي كان نادرا في تلك الفترة. من ثم تعرّفت في فرنسا عندما كان عمري 25 سنة، لأوّل مرّة على زوجين مثليّين يعيشان سويًّا. لقد كانت تجربة لا تنسى. كان الزوجان رائعان، ولكنّ ما أبهرني أكثر هو المجتمع الذي يحيط بهما. وفي غمرة نضالاتي، اتّضحت الغاية. في فترة لاحقة وبفضل تعاملي مع طلبتي في الجامعة، بدأت أتعرّف لأوّل مرّة على أشخاص ينتمون للمجتمع الكويريّ التونسيّكان ذلك سنة 2005 في تونس.

7- تمّ انتخابك في وقت من الأوقات رئيسة لمنظّمة العفو الدوليّة بتونس. لقد كنت تدافعين عن حقوق الانسان بصفة عامّة إلى أن بدأتِ التركيز على حقوق المجتمع الكويريّ الذي كان حاضرا أيضا وسط هذه المنظّمة. كيف عملتم.ن من أجل الدفاع عن المجتمع الكويريّ داخل هذه المنظّمة؟

لقد كانت منظمة العفو الدوليّة وسطًا شديد التنوّع في نظري. نجد داخلها أشخاصا معادين.ات للمثليّة ويدعون إلى ذلك. تمتدّ الفترة التي اُنتُخِبت فيها رئيسة من أفريل 2011 (بُعيد رحيل بن علي) إلى 2014. كان يوجد في الهيئة المديرة منْ يُعادي المثليّة. ولكنّ في نفس الوقت، كانت منظمة العفو الدوليّة أوّل من تحدّث عن القضيّة الكويريّة علنًا. مثّل ذلك سابقة في 2011. ثمّ تناولنا المسألة ضِمن مظاهرة تحت عنوان “10 خطوات نحو حقوق الإنساننظّمناها أمام المجلس التأسيسي سنة 2012. عدّدنا خلال هذه المظاهرة 10 نقاط أساسيّة أو نقائص يجب أخذها بعين الاعتبار. من بينها النقاط 8 و9 و10 التي تدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام وعدم التمييز على أساس العرق والدين واللون وطبعا الميول الجنسيّ اللا معياريّ. لقد طرحنا الموضوع هكذا في مظاهرةلقد كانت سابقة. جرى كل شيء بشكل مضطرب طيلة 3 ساعات و45 دقيقة. لقد كان الجوّ متوتّرا وهائجا بسبب المواضيع الحسّاسة الأخرى المطروحة مثل الاغتصاب الزوجيّ والعنف على أساس الجندر وغير ذلكيجب التركيز أيضا على تفصيل آخر جوهريّ يتعلّق بمنظمة العفو الدوليّة، ألا وهو هيئتها الشابّة. يُمثّل هذا الأمر مفخرتي الكبرى. لقد كانت هذه النواة المتكونة من شباب شديد الالتزام والمثاليّة والروعة، فريدة من نوعها. كان علي بوسالمي وعبير بوقرنين جزءا منهاومن هناك نشأت مبادرة موجودين. اشتغلت منظمة العفو الدوليّة على قضيّة مثليِّي القيروان والقانون عدد 230 والفحص الشرجي. منذ 2014 و إلى حدّ اللحظة أشتغلُ كمستشارة وطبيبة زائرة في العديد من المشاريع التقاطعيّة. أقبل كلّ المشاريع التي تتعلّق بحقوق الإنسان وخاصّة حقوق المجتمع الكويريّ التي أركّز عليها وأعطيها الأولويّة. حتّى لو كانت بعض المشاريع لا تتعلّق مباشرة بالمجتمع الكويريّفإنّي أبحث عن طريقة لجعلها تتناول قضايا الكوير. عندما أتلقّى دعوة لمشاريع تتناول قضيّة العنف على أساس الجندر، أطرح دائما السؤال التالي: هل يتعلّق الأمر بالجندر الثنائي أو اللا معياريّ؟ وأفسِّر موقفيوسواء قُبِلتُ أو رُفِضتُ فإنّي أُؤكِّد أنّي أعمل بعين لا معياريّة. إذا ما سُئِلتُ اليوم لماذا كل هذا التحامل على المجتمع الكويريّ؟ هل السبب رهاب المثليّة أو الجهل؟ فإنّي أُجِيبُ بأنّ رهاب المثليّة هو في حدّ ذاته الجهل. إنّه ناجم عن نقص فادح في المعلومة وافتقارٍ هائل على كافّة المستويات. فور تناولي الموضوع على نحوٍ مرحٍ وذكيٍّ، تختلف النتيجة. نحتاج إلى الوقت حتّى ننعتق ونتحرّر ونتجرّأ على تغيير عقليّاتنا. فالكثير من الناس يَخشَوْن بل يَرهَبون التغيير.

8- هل تعتبرين نفسك حليفة للقضيّة الكويريّة؟

باعتبار ما أقوم به، نعم، أنا حليفة للقضيّة الكويريّة. وأنا سعيدة بذلك. أنا أشتغل في التعليم وعلى قضايا الجندر وفي التثقيف بالجندر أيضا بفضل رئيس القسم في جامعتي الذي أضاف للمنهج مادّة تُدعىالتعليم والجندر“. أتناول مع طلبتي مواضيع الجندر اللامعياريّ عبر نقاشات ومناظرات وأفلام وغيرها. يجب الشروع في ذلك

9- أن ما هو تعريفك لحليف.ة القضيّة الكويريّة في المطلق ؟

بدايةً، يجب على الحليف.ة النضال من أجل حقوق الإنسان في معناها الأشمل. ثانيًا، يجب على الحليف.ة الدفاع عن فردانيّة واختلافات الناس مع الوعي بأنظمة الهيمنة والتمييز والاضطهاد والقمع القائمة. يُريد هؤلاء الناس الذين نحن حلفاء.ات لهم.ن أن يقع احترام ذاتهم الفرديّة وواجبنا كحلفاء.ات أن نكون أوّل من يحترم هويّتهم.ن وحريّتهم.ن. لا يعني أن تكون حليفا.ة إملاء معتقداتك على الآخرين وإعلانهابل يعني أن تكون.ي مساندا.ة لتلك القضيّة مهما كانت وأن تتراجع.ي لفسح المجال أمام الآخرين. يجب أن لا تتحدّث.ي باسمهم.ن. لدينا مسؤوليّة تقديم الحجّة والحجّة المضادّة وتفكيك الأفكار المغلوطة. وختاما على الحليف.ة أن ت.يكون مُثابرا.ة وصبورا.ة.

10- حسب رأيك، هل ثمّة فرق بين الحلفاء.ات؟ هل توجد طرق مختلفة يكون بها الإنسان حليفا؟ وهل يكونُ ذلك بصفة منهجيّة أو ذاتيّة؟

الأمرُ سيَّان. ولو أنّي أفضّل عبارةوجدانيّلاذاتيّ“. لا يمكننا الدفاع عن قضيّة لا تربطنا بها علاقة وجدانيّة عميقة عن اقتناعٍ. وطبعا، ثمّة طرق مختلفة يكون بها الإنسانحليفا.ة“. ثمّة من هم.ن منهجيّون في طريقة مساندتهم.ن واشتغالهم.ن على الميدان. فهم.ن في الخطوط الأماميّة ويمكن اعتبارهم.ن حتّى ضامنين.ات للقضيّة. يمكن للحليف.ة أن يكون أيضا في الخطوط الأماميّة بالاشتغال على نصوص القوانين والمناصرة واللقاءات العامّة والظهور العلنيّ. إنّ هؤلاء الحلفاء.ات ناجعون.ات ولهم.ن نفع كبير في مجتمع مثل مجتمعنا لا سيّما لو كانوا.نّ يحظون بشهرة معيّنة أو وظيفة سامية أو كانوا.ن متطابقي.ات الهويّة الجندريّة الثنائيّة. تتمثّل الطريقة الثانية حسب نظري في العمل مباشرة مع المجتمع المَعنيِّ والتعامل معه مباشرة بالإنصات والحضور والدعم والمساعدة. أمّا الطريقة الثالثة فتتمثّل في العمل على توعية الناسّ والمجتمع المحيط بالحليف.ة والتحاور مع معادي.ات المثليّة والأشخاص متطابقي.ات الهويّة المتحفّظينيجب أن لا يُخفي الإنسان كونه حليفا.ة للقضيّة ولا يكون دبلوماسيّا. والأنكى من ذلك أن يلتزم الصمت. للأسف، لا يعرف الكثير من الحلفاء.ات كيفيّة التحدّث عن القضيّة وليس لديهم.ن الآليّات المناسبة لذلك. ويدافعون غالبا بطريقة تجاوزها الزمن. لذلك يجب الإكثار من الدورات التدريبيّة والتوعويّة. وفي الكثير من الأحيان يخشى حلفاءٌ.ات الوصم المجتمعي


11- لا شكّ أنّ متَابعتكِ الدقيقة مكّنتكِ عبر السنين من ملاحظة فوارق بين الأجيال التي تدافع عن القضيّة النسويّة في تونس على مستوى جوهر النضال وطريقته. هل يمكنك أن تحدّثينا عن ذلك؟

شاسع هو الجواب! (تضحك) لقد عرفت أجيال عديدة من النسويّات. في شبابي عرفت وعايشت مُؤسِّسات النسويّة في تونس اللاتي تَحظَين بإعجابي الأبديّ. سأذكر اثنتين: الراحلة أحلام بلحاج. نبلغ سويا نفس السنّ لكنّها أخصائيّة في علم نفس الأطفال. كانت رئيستي السابقة في الجمعيّة التونسية للنساء الديمقراطيّات. كانت وستظلّ تبهرني دوما. أحلام بلحاج ليست مجرّد إنسان بل مهمّة. لم ترحل ولن ترحل أبدا. أعتقد أنّ أحلام كانت منفتحة على القضيّة الكويريّة قبل أيٍّ كان لأنّ قاموسها لا يعرف كلمة تمييز. الثانية هي بشرى بلحاج حميدة. لقد تبنّت القضيّة قبل أن نَضع لها تسميات حتّى. لم تكن الحركة النسويّة التونسيّة سابقا مُنسجمة مع ما يحدث في العالم أو المجتمع التونسيّ. ولم تُطرَح قضيّة المجتمع الكويريّ. قُبيل الثورة ظهرت الانترنت ومكّنت العديد من الناس من الانفتاح على العالم. طُرحت مسألة المثليّة بُعيد الثورة مباشرة. وهي نقطة تحوّل قادها الشباب في اعتقادي فأطلقت الألسن وفكّت الأغلال. إنّ أكبر فرحة لي هي أن أرى كل هؤلاء الشباب إلى اليوم ينشطون بقوّة في الجمعيّات والمنظّمات المعروفة أو حتّى في هياكل أخرى جديدة. ذاك هو التغيير. ويتواصل الكفاحانخرط وينخرط كلّ هؤلاء الشباب بطريقة مختلفة عن السابق. ذلك أمر جيّد. لا أنسى أيضا النسويّات الصامتاتيجب أن نتِّحد وأن نظلّ مُتضامنين.ات فمستقبلنا تقاطعيّ بامتياز.

12- هل يتسبّب لكِ موقفك من حقوق الكويريّين.ات في ضرر أو تهديد لأمنِك؟

لا. أعتقد أنّي محظوظة. لقد لَحِقني وصم المجتمع عندما كنت أصغر سنّا بسبب مواقفي وقناعاتي وآرائي. تعرّضت أيضا للإشكال الدينيّ ووُصِفتُ بالكافرة. أمّا اليوم، فلم يعد ذلك يزعجني، بل أستند إليه أحيانا لأصوغ البراهين والحجج المضادّة.

13- متى سائلتِ امتيازاتك وجعلتيها في خدمة القضيّة الكويريّة؟

منذ البدايةلكنّ الوعي التام بها كان أثناء رئاستي لمنظّمة العفو الدوليّة. إذ سمحت لي مكانتني ووظيفتي المرموقة وامتيازاتي بأن أكون حليفة للمجتمع الكويريّ على أحسن وجه.

14- تُشرِفين الآن على تكوين المشتغلين.ات في عديد المهن الحساسة حتى... كيف يتمّ هذا التعلّم؟

إنّ الأمر مُرهق. (تضحك) كوّنت من 2015 إلى 2022 الشرطة. وقدّمت لأكثر من 1800 شخصا تكوينا حول العنف ضدّ المرأة دون أن أفوّت الفرصة لأطرح مسألة التمييز ضدّ المجتمع الكويريّ. كان الأمر صعبا لكنّه مليئ بمفاجآت سارّة. من السطحيّ جعل الشرطةعدوّا أوحد“. صحيح أنّ الشرطة تمسك السلطة لكن إذا ما نزعناها من يدها عندما يتعلّق الأمر بالحريات الفرديّة، فإنّ الشرطة لا تختلف عن أيّ مهنة أخرى. هذه المهن التي يمكن أن تكون أيضا خطيرة على المجتمع الكويريّ. لقد قابلت أشخاصا رائعين.ات، فضوليّين.ات يرغبون في التغيير ومستعدّين.ات لتفكيك الأحكام المسبقة والانفتاح على التغيّرات. تتمثّل المفاجآت السارّة في مقابلة  أشخاص من مهنٍ مُتمسّكة بحماية الكرامة البشريّة. كذلك توجد دائما مفاجآت سيّئة. ذلك جزء لا يتجزّأ من النضال والكفاح. أمّا سلاحي الرئيسيّ فيظلّ طلبتي الذين سيكُونون مُدرسِّي.ات المستقبل.


15- هل تتماشى المهنة مع الالتزام والنضال؟

هذا إشكال فلسفيّ (تضحك). ثمّة من يستطيع النضال من خلال عمله، مثليأما البعض الآخر فلا يمكنه ذلك. ما أنا مُتأكّدة منه هو أنّ مسألة الالتزام والنضال تظلّ مرتبطة ارتباطا عضويّا بالشخص في حدّ ذاته. يمكننا طبعا أن نكون مُلتزمين.ات ومناضلين.ات في حياتنا اليوميّة. لكنْ أن نكون قادرين.ات على فعل ذلك من خلال وظيفتنا، يجعل المهمّة أسهل.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *