©Design: Boshra Jallali

رحلة البحث عن الذات

لقاء مع “ليل”، لا ثنائيّ الجندر (هو/هي)، كاتب مستقلّ

بقلم هيثم حوَّال

مترجم للعربية عن فراس العرفاوي

لا يولد الإنسانُ بماهيّةٍ جاهزة، بل يصنعها هو بنفسه أو يسعى إلى ذلك. ولأنّه يُنشِد تعايشا مشتركا أكثر عدلا وبسبب حمله لرايةِ الحريّات الفرديّة مُبكّرا، يُصارِع “ليل” أهوالَ وجودٍ مضطربٍ دائمِ العدوانيّة ولكنْ مُعاشٌ في كُلِّيته. وَسَمَتْ المعاركُ والمراوغة والبحث المتواصل عن السلم والتصالح مسيرتَه.

 

القبول بالنفس

تَهزُّ أسراره مسامعنا. يستأمننا “ليل” المُرحِّب دون تحفُّظ ويأخذنا معه في فلتة وجوديّة. تَخالُ وأنت تُنصت إليه أنّ التساؤلات لم تكُفَّ عن مراودته منذ ولادته.

بدأ كل شيء في مدينة تطوان المغربيّة: ليل هو الابن الوحيد لمُوظَّفيْن. نشأ في مجتمع مغربيّ، بأعرافه وتقاليده الباترياركيّة الثقيلة وامتثاليّته المُخدِّرة. كان الطفل الذي هو عليه يطرح في سن مُبكّرة أسئلة جوهريّة. لطالما كان يتساءل وهو صغير حول الجنسانية والعلاقة بالجسد والمظهر. طفولةٌ مُبهمَة تُبشِّر بكهولةٍ أكثر عصفًا.

تبدو الحدود الفاصلة بين الجندر في نظره غير قابلة للإدراك. ذكر أو أنثى، رجل أو امرأة، تتهاطل التساؤلات عليه في خِضم فترة المراهقة بما تحمله من تغيّرات جسديّة وعاطفيّة. ويتملّكه إحساس مُزعج أحيانا، وغامض عادة، ويرافق هذا الإحساس تغيّراتٌ في الوزن وتقلّصٌ في حجم الملابس ورفض للمظهر. يُسِرُّ إلينا “ليل” مُغتبِطًا:

لقد كانت فترة حسّاسة اختبأت فيها ولم أظهِر نفسي… إلى أن بلغت مرحلةً أصبح فيها الشعور بذكوريّتي بكل ما لها من خصائص أمرًا جذّابا بل حتّى ممتعًا. كان ارتداء ربطة عنقٍ وبعض ملابس والدي الواسعة، وتقمّص الدور، يُثيرُ نفسي ويكسر ببطء وهوادةٍ طبقات الجليد التي تلُفُّ هويّتي الجندريّة”.

“ليل” هو ذاك الطفل المُنطوِي الذي لم يَنضُج اختلافه بعدُ ولكنّ مسيرة إدراك الذات ظلّت تتقدّم بخطى ثابتة. بدأ يكتشف ذاته مبكّرا: كان يختلِسُ اللمسات ليتقصّى جسد الآخر. وتحوّلت اللمسات مع الأشخاص من ذوي الجنس المماثل إلى مغازلات بلورت اهتياجاته الفيزيولوجيّة والعاطفيّة والجنسيّة… منذ سنّ السابعة. أدّى هذا المخاض إلى الانتقال إلى فترة الكهولة مُنبِئًا بمغامرات متنوّعة.

العبور

لم يمنع اكتشافُ الذات “ليل” من مواصلة دراسته الجامعيّة إثر تحصّله على الباكالوريا في الآداب الانجليزيّة ثمّ في الصحافة لاحقا… المهنة التي لم يُمارسها. لقد يسّرت الجامعة الانفصال عن العائلة ووضعت مسافة بينه وبين الأبوين والمحيط الذي نشأ فيه. لا مزيد من الامتثال بعد اليوم… كانت مغادرة “تطوان” تعني التمتّع بالاستقلاليّة والانطلاق في رحلة لقاءِ أشخاص يشبهونه وتكوين علاقاتِ صداقةٍ وعلاقاتٍ غراميّة مهما كانت متينةً أو عَرَضيّة.

عاش حياة طلابيّة عاديّة تقريبا امتزجت بالنضال من أجل حقوق المجتمع الكويريّ الذي كان أفراده وأنشطته يعملون في الظلّ غالبا. يقول لنا “ليل” مُستحضِرا حدث تكوين مجموعة أصوات لمناهضة التمييز المبني على الجنسانية والنوع الاجتماعي المعروفة باسم، مجموعة أصوات: “كنت منغمِسا سنة 2008 في النشاط المدني. إذ انضممت إلى جمعيّة نسويّة بفضل لقاءٍ. تعلّمت من خلالها التطوّع وروح الفريق واكتشفت كيفيّة إقامة محافل مُلتزمة. مثّل هذا الانضمام فرصة للاندماج بسلاسةٍ ثابتةٍ وأدّى بي إلى طريق النضال الخالص الذي كان على وشك التجسّد، لم يكن الأمر سوى مسألة وقت”.

قلبت “مجموعة أصوات” التي أسّسها سنة 2013 مع ناشطين.ات آخرين حياته، إذ لم يكن لها صدى على المستوى الجماعيّ فقط بل على المستوى الفرديّ أيضا. يُعلّق على ذلك قائلا في ارتياح: “كانت هذه الخطوة أساسيّة، فقد غيّرت حياتي وقدّمت لي ذكريات جميلة… رغم كل ما حصل”. دافعت “أصوات” بشراسة عن حقوق الكويريّين.ات والمجتمع الكويريّ. مكّنته المجموعة من الوصول إلى كامل المجتمع الكويريّ ومن اكتشاف مشاكلها وبواطنها. يقول في حنين إلى الماضي: “لقد أجابت المجموعة عن تساؤلاتي وجعلتني أفكّر وصقلت ذاتي ومكّنتني من مُراجعة نفسي بسهولة أكبر ومن تجوِيد حياتي المجتمعيّة… لقد كانت ثمّة عديد لحظات التبادل مع الناشطين.ات. لقد كنا مُتكاملين.ات، مُتحدين.ات، مُتضامنين.ات ومُتقاربين.ات. كانت قصص حياتنا تتقاطع وتتآلف شخصيّاتنا ومساراتنا وتتضاعف… حتى أصبحت الكثير من المعارك تقاطعيّة وتنتظر منّا فقط أن نخوضها”.

حياةٌ جماعيّة صاخبة

لقد أسّس “مجموعة أصوات” 8 أفراد ناشطين.ات وملتزمين.ات. واتّسعت هذه النواة لتصبح 15 شخصا.  انتشر الالتزام في المجتمع الكويريّ الذي كان يعيش ويتواجد في المغرب بعيدًا عن الأنظار، في الظلِّ…

كان لنضالهم.ن ولأنشطتهم.ن كذلك معنى. إذ أخذت “مجموعة أصوات” تحت جناحها العديد من المنتمين.ات للمجتمع الكويريّ رغم قلّة الموارد. تولّى الأعضاء والعضوات العمل الميداني فنجحوا.ن في توفير الدعم الاجتماعي والقانونيّ مُركِّزين.ات أيضا على الاعتقالات. وصارت المواجهة مع السلطات تتجلّى شيئا فشيئا…

غذّت المجموعة طاقمها ونمَّته. التفّ الأعضاء والعضوات حول أنشطتهم.ن الجماعيّة ومَعَاشهم.ن فتدعَّم الحراك البديل الذي كان ينشط حينها من أجل الحريات الفرديّة بتواجد هذه النواة التي جعلت من الحريّات الجنسيّة محور كفاحها. عندئذ أصبح هذا النضال يقترب من السياسة والقضاء واضعا المجتمع الكويريّ في مواجهة مع سياقه الحقيقيّ. يجدر بنا التذكير بأنّ القانون المغربيّ يُجرّم العلاقات الجنسيّة المثليّة، فالفصل 489 من القانون الجنائي في المغرب يُجرّم “الفعل برضا والمنافي للطبيعة مع شخص من نفس الجنس”. فالمثليّة الجنسيّة غير قانونيّة في المغرب ويُعاقَب عليها بالسجن من 6 أشهر إلى 3 سنوات وبغرامة من 120 إلى 1200 درهم.

قلبت “أصوات” وحدها حياة “ليل” الشخصيّة. يُفسِّر ذلك قائلا: “أُسنِد إليّ جنس “أنثى” ولم يكن تغيّر مظهري ليمرّ مرور الكرام. إنّ التعرّض للهرسلة والاعتداءات والتعليقات المُزدَرِية لمظهري جزء لا يتجزّأ من وجودي. أعيش في حالة دفاع منذ زمن طويل. لكنّ “أصوات” عالجت ذلك. إذ حمتني ومكّنتني من مزيد التصالح مع ذاتي. إن مواجهة عنف المجتمع وأنت جزء من جماعة لأمرٌ أسهل. كانت المجموعة قد أصبحت عائلتي ودرعي الواقي. كنا نواجه التمييز والاضطهاد والظلم سويًّا خالقين لأنفسنا آليّات للدفاع”. علاوة على هويّته الكويريّة، اعتبر “ليل” عند ولادته أنثى، مما يجعله يشعر بالتمييز دائما وعلى مستويات عديدة. لقد حماه التواجد في “أصوات” رمزيّا. إذ يقول: “لم أعد أشعر أني مجبر على مواجهة المجتمع لوحدي”.

لقد شجّعه هذا الملجأ، أي المجموعة، إذن على إثبات ذاته مُؤثرا على علاقته بوالديه، لاسيّما والدته. يُحدّثنا “ليل” عن ذلك مُستسلما: “كانت ثمّة حينها مسافة بيني وبين والديّ. كان من الصعب عليهم تقبّلي كما أنا. وفي وقت من الأوقات، أفصحت لهم عن هويّتي. سرعان ما تحوّلت صدمة أمّي إلى إنكار مطلق. كان القبول بذلك بالنسبة لها أمرا مستحيلا”. منذ ذلك الإعلان خيّمت على العلاقة قطيعة مطوّلة. للتمكّن من تجاوز هذه المحنة، عوّضت المجموعة عائلته الأصليّة… على الأقلّ إلى أن انحلَّت ببطء وثبات.

بداية النهاية

في 2014، نجحت المجموعة في الظهور على الساحة رغم الضغوطات والخطر المُحدِق. احتفلت “أصوات” باليوم العالم لمناهضة رهاب العبور الجندري بدعم من سفارة هولندا. بعد ذلك، واصلت المعارك اكتسابَ الزخم حتى بلغت المناطق الداخليّة في المغرب وخارجها.

لا ينسى “ليل” مرور “أصوات” بتونس في إطار “المنتدى الاجتماعي العالمي”. يستحضر ذلك مُبتسمًا. يقول: “تمكّنا من المشاركة في المنتدى الاجتماعيّ العالميّ المُنعقد بتونس سنة 2015. كان قد دعاني علي بوسالمي (المدير التنفيذي وعضو مؤسس في موجودين). كانت مشاركتي في هذا الحدث المهمّ ثمرة تعاون مشترك مع العديد من الجمعيّات المغربيّة والتونسيّة. خلال هذا المؤتمر العالميّ، نَصبنا منصّة في المركب الجامعي بالمنار للتعريف بأصوات أمام الجمهور الحاضر. انتهى هذا النشاط بمناوشات مع مجموعة من اليسار التونسيّ المُعادية للمثليّة. لكنّ ذلك لم يمنعنا من رفع راية المثليّة لأوّل مرّة في الشارع أثناء المسيرة من أجل حقوق الإنسان. أوّل مرّة يحدث ذلك! لقد كانت حركة رمزيّة جميلة لا تنسى”.

كلّما ظهرت المجموعة أكثر على الساحة بفعل أنشطتها، كلّما ازداد الشعور بالعدوانيّة والعنف مُؤثّرا سلبا على الأعضاء والعضوات الذين بدؤوا في التفكّك. كانت السلطات تُروِّع “أصوات” التي تعرّض أفرادها للهرسلة والاعتقال على أساس الهويّة الجندريّة. وما انفكّ الاضطهاد يخنقهم.ن. فعندما قابلت المجموعة صحفيّين أجانب جاؤوا لتغطية أنشطتها، اتّصلت الشرطة بعائلات الأعضاء والعضوات لإعلامهم بأنشطتهم.ن. وأصبح الخطر يُحدِق بهم.ن أكثر فأكثر…

كانت وطأة الجوّ تزداد ثقلا. نشبت العداوات حتى في وسط النواة التي وجدت نفسها مُنهكَة. وبدأت ديناميكية جديدة في إرساء نفسها والعلاقات في التآكل. انطلقت رحلات المغادرة نحو أراضٍ جديدة إذ قدّم عضوان على الأقلّ مطالب لجوء. بلغ الإرهاق النفسيّ أقصاه ولاحت في الأفق نهاية حلمٍ جماعيٍّ. يجد “ليل” نفسه الآن أمام مفترق مصيريّ في حياته.

المغادرة… أو الموت

أصبحت الحاجة إلى المغادرة عند “ليل” أكثر إلحاحا بعد أن وجد نفسه منهكا ذهنيّا وفي وضعيّة هشّة. كان الاكتئاب المزمن يعصف به، وتتملّكه الهواجس الانتحاريّة. إذ اختفى التناغم الذي كان موجودا بفضل “أصوات”. لقد كان الأمر أشبه بنفور وجودٍ كاملٍ من موطنه الأصليّ… كان عليه المغادرة والعثور بسرعة على مُستقرٍّ جديد. كانت أوّل وجهة خطرت على باله، هولندا طبعا. يُؤكّد ذلك قائلا: “كانت لديّ التأشيرة. إذ عدت للتوّ من مسيرةِ فخرٍ وكانت المجموعة قد تعاونت مع السفارة مسبقا. كانت خطّة مغادرتي الصعبة والمُمزِّقة لروحي جاهزةً. في اللحظة المناسبة، أعلمت أصدقائي المقرّبين مؤكّدا على أنّي سأقدّم طلب لجوء فور وصولي. أمّا عائلتي فأخبرتهم أنّي سأمكث هناك فترةً. وصلت في نهاية الأسبوع إلى الضفة الأخرى. ذهبت إلى منزل صديقتي المفضّلة وهي عضوة سابقة في أصوات كانت تنتظرني هناك. وفي صبيحة يوم من أيام الإثنين، قرّرت التقدُّم إلى مركز أو مخيّم لطالبي.ات اللجوء.

صفحةٌ تُطوَى لبدءِ أخرى جديدة… أفريل 2017

قد يكون “ليل” أضاع طريقه، إذ أخطأ في البداية لكنّه وصل أخيرا إلى وجهته. يقع مركز طالبي.ات اللجوء بعيدا عن المدينة أو عن الضجيج الحضَريّ على الحدود الألمانيّة… لم يكن وجوده معروفا أصلا. يصف التجربة قائلا: “لم تكن معي سوى 300 أورو. كانت الحاجة إلى دخول المخيّم عاجلة. لمّا وصلت، توجّهت إلى شرطيّ فقدّم لي استمارة بيانات لأملأها. كان سلوك الموظّفين عموما يتميّز بالبرود والرتابة والصرامة وانعدام التعاطف. وكان الصفُّ أمام المخيّم هائلا”.

يستحضر “ليل” وصوله هناك ومشاعره. ذهولٌ! كان مصدوما لرؤية هذا الكمّ من اللاجئين.ات وطالبي.ات اللجوء القادمين.ات من كلّ مكان. كان الحضور الأمنيّ الكثيف دائم التواجد. كانت ساعات الانتظار تتمطّط في قاعة انتظار مليئة. كان الخوف من المجهول والرهبة تُخيّم على الأجواء: “أثّرت فيّ هذه الصور كثيرا عند وصولي. جاء دوري! شعرت أنّ ذاتي عارية أمام وابل الأسئلة الدقيقة. صوّروني كما لو كنت مجرما. يأخذون بعد ذلك بصمات الأصابع. كان تعامل الشرطة محايدا، قاسيا وباردا كالآلة. ثمّ يبدأ التحقيق الأمنيّ المفصّل الذي يُكوَّن منه ملفّ لتعليل هربك وطلبك اللجوء. لخّص الملفّ حياتي وأُضيف إليه أدلّة تشهد على نشاطي المدنيّ. طلبوا كلّ دعوة ووثيقة وشهادة وصورة وورقة. حضر أيضًا مترجم فلكل كلمة وزنها. وتسهر منظّمة محايدة على حسن سير العمليّة”. يسترجع الناشط هذه اللحظات بمرارة. كانت اللقاءات مع المحامين والمقابلات تتخلّل وقت انتظاره في هذا “المخيّم”. يتواصل الكفاح في حُلَّةٍ جديدة هذه المرّة.

وُضع “ليل” في غرفة طالب بها. فخطرُ الالتقاء بأشخاص معادين للمثليّة أو العبور الجندريّ عالٍ. لكن لم يشفع له ذلك. فما انفكّ شخص يهرسله وسط المخيّم. اضطرّ إلى التستّر لتغطية آثاره. كان الضغط دائما وكانت الوحدة والعزلة خانقة. إنها كل ما تحتفظ به ذاكرته من تلك المحطّة. “كان بإمكاننا الخروج إلى المدينة، ولكن كان علينا السير لكيلومترات على الأقدام. مسيرة 45 دقيقة! كانت أسهل على الدراجة. كنّا نتحصّل على مصروفنا اليوميّ والوجبات. كانت حاجياتنا الأساسيّة متوفّرة دائما، المسكن والنظافة والغذاء ولكن كنت أعيش شخصيّا في حالة من الاكتفاء الذاتيّ.

إنّ مركز اللجوء شبيه بقاعة انتظار ضخمة. يُقرِّر أشخاص مصير “ليل” وغيره… عندما يبدو لهم ذلك. يقول مُوضِّحا: “يختارون لنا حياة ويعثرون على مكان لوضعنا فيه ثمّ يقدّمون لنا بطاقة خاصّة بنا”.

خلال الوقت الذي قضاه متوقفا هناك، عقد “ليل” صداقات مع أشخاص كويريّين.ات من بينهم.ن عابر.ة جندريّ.ة من ماليزيا ومثليّ من الصومال. تُخفّف هذه الروابط مؤقتا وطأة اليوميِّ قبل أن تختفي. فاللاجؤون.ات وطالبو.ات اللجوء يُغيّرون باستمرار مكان إقامتهم… وأخيرا انتهت هذه المرحلة المفصليّة في غضون ستة أشهر. البعض يعيشون هذه الحالة من الشكّ طيلة سنوات. يلوح في نهاية النفق أخيرا بريق من النور…

اندماج ليسَ بيسيرٍ

يتحصّل “ليل” على بطاقة اللاجئ الخاصّة به ويعثر على كراءٍ بعيدا عن المخيّم. يتمتّع بمبلغ زهيد يُمكّنه من توفير حاجياته والعلاج لدى أخصائية نفسيّة. تُشخّص حالته بإجهاد ما بعد الصدمة ممّا تسبّب له في اكتئاب حادّ وفي نوع من القلق الاجتماعيّ الذي منعه لاحقا من العثور على وظيفة. شرع إذن في الكتابة مُقتنعا أنّ الكتابة في عصرنا هذا شكل من أشكال النضال. وسرعان ما ربط علاقات مع أشخاص كويريّين.ات وكوّنوا معا مجموعة كويريّة أخرى في هولندا.

يمثّل ممارسة هواياته وتحفيز قدراته الفنيّة كذلك أمرا مهما له. ويمثّل تعلّم اللغة المحلّية وردّ الجميل للبلد المُضيف وبلوغ مكانة مرموقة جزءا من خطوات الاندماج السليم. يسعى “ليل” إلى الحصول على جواز سفره ليتمكّن من السفر مجددا إلى المغرب. إنّ المسافة تُعذّب روحه فهو مشتاق إلى أرضه. تُوفِّي والده دون أن يكون قادرا على حضور جنازته… محنة شديدة! مرّت أكثر من خمس سنوات و”ليل” يرغب في العودة. إنّها لحظة الصلح مع نفسه ومع موطنه الأمّ.

بالنظر إلى الخلف، وبالكثير من الأرق، يدرك أنّ مفهوم النضال تغيّر في نظره. يقول: “في السابق، كنّا ننسى ذواتنا في غمرة النضال. اليوم، أركّز على نفسي أكثر. لا أتجاهل حاجياتي وأناضل على نحو مختلف جاعلا من الاعتناء بالذات أولويّة. لا يزال النضال في المغرب أمرا شديد التعقيد. يجب أن يتغيّر السياق وأن تصبح المقاومة أمرا أقلّ خطورة هناك”. وختامًا، ينزع “ليل” عن نفسه تسمية “اللاجئ” ويستبدلها بعبارة “رحّال”.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *